صدمتني مشاهدتي الأولى لفيلم لوبستر[1] (جراد البحر).. تدور أحداث الفيلم في عصر ما ومكان متخيل داخل فانتازيا ساخرة أحيانا ومقبضة معظم الوقت، حيث تفرض الحياة على البشر كشركاء partners لا يوجد مكان في المدينة الجميلة المتحضرة لشخص بمفرده، بل يجب أن يدخل منظومة الزواج أو الشراكة.
ماذا يحدث إذا عندما تفقد الشريك نتيجة الموت أو الطلاق؟ ببساطة تذهب لفندق -هو معسكر شبيه بمعسكرات النازي ولكنه يدعي التحضر- ليعطوك ٤٥ يوما فقط لتحاول أن تجد شريكا! والله حاجة عظيمة.. مساعدة مفتوحة جاهزة للبحث عن شريك حياة بشكل مباشر وبعيدا عن المقدمات والأكاذيب واللف والدوران في اليوميين المصاحبين للـdating أو المواعدة. لكن لحظة.. إذا مرت الستة أسابيع ولم توفق، فإن مصيرك هو أن تتحول إلى حيوان!
في مشاهدتي الثانية لفتت نظري السيدة بلا مشاعر.. هي بلا مشاعر فعلا.. لا يوجد أي شيء.. لا حب ولا كره ولا تعاطف ولا اهتمام، ولا غرور ولا غيرة.. لا شيء.
ممثلة بارعة بالفعل ظلت في مشاهدها القليلة بوجه بلا أي معالم أو إنفعالات.. تتم الإشارة لها طوال الفيلم بأنها بلا قلب.
هنا توقفت قليلا.. لماذا توجد هذه السيدة في الفندق العجيب؟ لماذا أصلا البحث عن شريك إذا كنت تستطيع أن تعيش وحيدة دونما أن تشعر بالوحدة؟ أليست مفارقة غريبة تلك أن تبحث تلك السيدة عن شريك يشاركها كرهها للحب؟! هل أراد كتاب الفيلم بطرحهم هذا النموذج، أن يقدموا الصورة الفجة لسيطرة المجتمع ومنظومة الزواج على البشر، لدرجة أن تلك السيدة السادية بلا أي مشاعر تبحث عن من يشاركها حياتها تلك الفارغة من المشاعر؟
يمتليء فندق المعذبين بنماذج تقليدية لما يمكن تسميتهم \”قللات البخت\”.. الرجل المتلعثم غير الجذاب، أو السيدة -التي تعشق البسكويت بالزبدة- اليائسة، التي تعلم جيدا أنها لن تحصل على شريك في الـ٤٥ يوم أو بعدهم، لكنها تحاول حتى آخر لحظة، وتفضل الانتحار على التحول لحيوان.. تلك النماذج التي ربما تبدو أكثر واقعية، تزداد معاناتها في هذا العصر مع تعقد تفصايل وآليات المواعدة والمصاحبة والشراكة، بل والأهم الزواج.
في نفس يوم عرض \”لوبستر\” في بانوراما السينما الأوروبية، اختار المخرج محمد خان بناء على طلب المنظمين، فيلما بريطانيا من إنتاج ١٩٦٠ وهو \”مساء السبت وصباح الجمعة\”[2] للنجم الصاعد وقتها ألبرت فيني. لمن لا يعلم، فيني هو حالة شبيهة بجيمس دين من حيث الشكل والتمرد، ولكن بنكهة إنجليزية، حيث يدور الفيلم في مدينة نوتينجهام في قلب المصانع وبين أحياء الطبقة العاملة في لحظة انتعاشة أوروبا بعد خروجها من الحرب العالمية الثانية.
مفردات الحياة في ذلك العصر كانت بسيطة جدا.. فيني عامل في مصنع \”راجل كسيب\” -حسب الرؤية المصرية- وبالتالي فهو يدخل \”بار\” ليلة السبت، فتعجبه فتاة جميلة، وبمجرد تأكد الفتاة أن الرجل \”خالي\” و\”كسيب\” ووسيم تقبل مواعدته، ثم تبدأ في الكر والفر.. \”تعالي البيت\”، \”ماقدرش اتأخر لأحسن ماما بتزعل\”.. الأم نفسها تمارس دورها لدرجة أنني تخيلتني أمام ماري منيب \”مش حتروح بقى يا حبيبي.. مش وراكم شغل بكرة\”، وينتهي الفيلم بالطبع بمعاينة فيني وصديقته لمنزل الزوجية المستقبلي.
حاول فيني أن يؤكد أنه طائر متمرد ومحلق في مشهد النهاية.. تجاهلت الخطيبة الأمر، وانتهي الفيلم دونما أن نعلم، هل هرب الطائر، أم استسلم في سجنه؟
يوجد في عالم \”لوبستر\” عالم ثالث مواز للفندق العجيب والمدينة التي يعيش فيها الشركاء سعداء كالعصافير المغردة.. إنه مجتمع الوحيدين أو Loners أنت تتخيل للوهلة الأولى أن هذه الغابة التي هرب إليها هؤلاء المتمردون هي الجنة المنشودة.. مكان لا يفرض فيه على أحد أن يعيش مرتبطا.. يعيش الكل مستمتعا بفرديته ومساحته الشخصية.. حتى الصداقات العابرة أو القديمة ليست عبئا.. كل فرد مسؤل عن نفسه، وأكله، وشربه، وحياته.. يمكن التعارف socialization والتحدث بقدر محدود لا غير، وإذا قرر مجتمع الغابة في يوم السهر والرقص، فكل فرد يرقص على موسيقاه وحده على أنغام سماعات الأذن.. قواعد الغابة التي تتمرد على المنظومة هي منع الحب تماما، والارتباط، وأي شكل من أشكال المعاشرة.. حتى القبلات العابرة ممنوعة.
بشكل مواز للبانوراما، شاهدت ثلاثية أنطونيوني الشهيرة، وهي أفلامه الثلاثة \”الخسوف\” و\”المغامرة\” و\”الليلة\”[3]. أبطال الثلاثة أفلام من أجمل وأوسم ممثلي هذا العصر. مارشيلو ماستورياني وآلان ديلون ومونيكا فيتي، وفي تتابع ثلاث سنوات متوالين من ١٩٦٠-١٩٦٢ قدم المخرج ثلاث قصص مختلفة لأرواح معذبة عبثية في علاقات حب معقدة أو زواج متأزم.
القصص الثلاث تحدث بين أبناء الطبقات المتوسطة والغنية، أو التي اغتنت في جو من العبث و لخواء والتأزم في المدن الإيطالية الكبرى في الستينيات أيضا. تذكرت زعيمة متوحدي الغابة في \”لوبستر\”، التي تسيطر بيد من حديد على الغابة وقواعدها الصارمة، بقتل أو تشويه أي شخصين وقعوا في الحب. هي تخفي بركانا من القمع الذاتي خلف قناع من القسوة، فهي تحب البطل لكنها تدافع عن قواعد الغابة والمتوحدين.. عن الدور الذي رسمته لحياتها، أو ربما وجدت نفسها فيه.. هي لا تقل \”غلبا\” وضعفا عن السيدة التي انتحرت في الفندق.. فقط هي لم تنتحر، لكنها تهدد بالقتل وتحرم غريمتها (حبيبة البطل) من عيونها والنظر مدى الحياة.
في مشهد النهاية الطويل من فيلم \”لوبستر\” يهرب البطل والبطلة بعد وقوعهما في الحب من الغابة (هذه شروط الغابة)، وهما بالفعل هاربان مسبقا من الفندق. إذا لا يتبقى لهما الآن بعد الوقوع في الحب وبعد أن وجد كل واحد منهما شريكا، سوى العودة للمدينة، ليعيشا داخل المنظومة ثانية.
لكننا نكتشف المعضلة.. لكي يقدما نفسيهما للمدينة كشريكين، يجب أن يكون بينهما صفة مشتركة، وهنا فقط تكشفت لي طوال الفيلم، لماذا يقوم كل نموذج في الفندق أو المدينة بتقديم سمة خاصة به كالإبتسامة الجميلة أو التلعثم أو الأنف سريعة النزف أو الشعر الطويل اللامع أو قصر وطول النظر.. لا يجد بطلانا أي شيء مشترك سوى نظرهما (كليهما يعاني من طول النظر)، لكن بعد أن حُرمت بطلتنا من نظرها نتيجة مكيدة وقسوة زعيمة متوحدي الغابة، لم يعد هناك حل لبطلنا سوى أن يفقد هو الآخر نظره.. مشهد قاس جدا، إذ يقف بطلنا أمام المرآة وفي يده سكين، ويستعد أو يتردد في جرح عينيه، ولكن هنا فقط ينتهي الفيلم فجأة.
إلى أي مدى يجب أن تكون التنازلات بين الشركاء والأحبة؟ إلى أي مدى يجب أن تكون هناك صفة مشتركة ليعلم المحبين أنهم يستطيعون أن يكملوا حياتهم سويا؟ أم أن الحب في ذاته لا يعد صفة مشتركة تضمن استمرار الشراكة بين الطرفين؟
لكي أستطيع النوم أحيانا كثيرة، أفتح موقعا من مواقع الأفلام أونلاين لأشاهد أي فيلم جديد.. هيو جرانت ذلك الممثل البريطاني ذو الدم الخفيف ظهر في فيلم في العام الماضي[4] كاكاتب سيناريو نضبت قريحته، وتضطره الظروف لترك هوليوود أو نيويورك غالبا، لمدينة صغيرة ليعمل مدرسا للدراما والكتابة في كلية متواضعة. باختصار متوقع أن يقع بطلنا بعد العديد من المفارقات في حب أمينة المكتبة هناك، وهي أم وحيدة مطلقة، وطبعا في آخر ربع ساعة من الفيلم تتعقد الأمور، إذ تأتي له الفرصة الذهبية للعودة إلى الأضواء مرة أخرى، ويودع حبيبته، لأنه ببساطة \”آسف مش حينفع، رغم إني عندي مشاعر تجاهك\”، وهنا تتخيل أنه يجب أن تنزل كلمة النهاية، لأن الطبيعي لاثنين ينتميان لعالمين مختلفين في مدنيتين متباعدتين أن يتقبلا صعوبة استمرار العلاقة ويفترقا بحب وتحضر، لكن طبعا يعود السيد هيو جرانت جاريا من المطار مؤكدا أنه عندما تجد الحب الحقيقي يجب أن \”تمسك فيه بإيدك وسنانك\”.
تذكرت عدد الأفلام التي انتهت هذه النهاية المستحيلة تماما.. عدد الرحلات للحاق بالحبيب\\ة في المطار.. عدد منولوجات النهاية حول لحظة التنوير التي واجه فيها الإنسان ذاته، واكتشف أن هذا الآخر هو رفيق الدرب الذي ظل ينتطره، \” واللي فضل مستنيه طول عمره\”، بل إنني مثلا لم أكره في حياتي فيلما مثل [5]Love Actually الذي يمتليء بقصص حب كلها تنتهي بأحضان وقبلات ونهايات سعيدة مستحيلة وسريعة وسطحية، أما القصة الوحيدة في الفيلم التي بها سمت من الواقع.. قصة طبعا إيما تومسون، والله يرحمه آلان ريكمان، يصر المخرج ألا يعلمنا مصير الزوجين أصحاب الأسرة السعيدة وأزمة الزوج وهل خان زوجته بالفعل بعد مرور أكثر من عقد على الزواج.
بالتأكيد يظل عبث وخواء قصص حب ثلاثية أنطونيوني وقسوة فيلم \”لوبستر\”، وصدماته وروح فيني المتمردة في \”نوتينجهام\” الستينيات أكثر واقعية من عشرات، بل مئات الأفلام الرومانسية الهوليودية التي تخرج علينا كل يوم، لتجعل الحب والعلاقات يبدوان أكثر بريقا وسهولة وسلاسة.
تساءلت كثيرا إلى أي حيوان، حّوّل البطل سيدة الفندق التي ليس لديها مشاعر؟ تتراءى بمخيلتي عدة حيوانات، ثم أنسى التساؤل، واتمنى فقط لو كنت مثلها بلا أي مشاعر.. بلا أي إحساس.
[1] The Lobster, 2015. http://www.imdb.com/title/tt3464902/
[2] Saturday Night, Sunday Morning, 1960. http://www.imdb.com/title/tt0054269/
[3] https://en.wikipedia.org/wiki/Michelangelo_Antonioni
[4] The Rewrite, 2014. http://www.imdb.com/title/tt2509850/
[5]Love Actually, 2003. http://www.imdb.com/title/tt0314331/